by عبدالله قاسملم تكن أوراق لينورمان يومًا مجرد وسيلة للتسلية أو لعبة حظ عابرة، بل كانت منذ ولادتها الأولى همسةً من العالم الآخر، مرآةً سوداء تعكس ما لا يريد الإنسان أن يراه، وتفتح نافذةً ضيقة على الغيب، لا يعود من ينظر عبرها كما كان. فهذه الأوراق، ببساطة رموزها وقسوة معانيها، لا تمنح الأمل كما يفعل التاروت، بل تمنح الحقيقة كما هي، عارية، باردة، لا تعرف الشفقة.
ولدت لينورمان في زمن كان الناس فيه مرعوبين من الغد، مشدودين إلى فكرة القدر كما يُشدّ المحكوم إلى منصة الإعدام. نسبت إلى امرأة أصبحت أسطورة، ماري آن أديلايد لينورمان، العرافة التي قرأَت مصائر الجنرالات والملوك، وقيل إنها رأت سقوط الإمبراطور قبل أن يسقط، ورأت رؤوسًا تتدحرج قبل أن تُرفع السكاكين. لم تكن كلماتها تطمينًا، بل إنذارًا، ولم تكن أوراقها وعدًا، بل حكماً يتأخر تنفيذه فقط.
أوراق لينورمان لا تحمل صور ملائكة ولا شياطين مرسومة، لكنها أخطر من ذلك كله، لأنها تحمل أشياء مألوفة، بيت، مفتاح، نعش، ثعبان، مرآة الواقع حين تُسحب من سياقها وتُلقى أمام عينيك عارية من أي رحمة. السفينة قد تكون هروبًا، والنعش نهاية، والخاتم قيدًا أبديًا باسم الحب، والثعبان خيانة تتخفى في هيئة نجاة. هنا لا وجود للرموز المجردة، بل إشارات واقعية تُصيب القلب مباشرة دون أن تمر عبر طبقات الأمل.
القراءة في لينورمان لا تتم بورقة واحدة، لأن مصير الإنسان لا يُكتب بجملة قصيرة، بل بسلسلة متشابكة من العلامات. كل ورقة تنظر إلى أختها، وكل رمز يراقب ظل الرمز الذي يجاوره، وكأن الأوراق نفسها تخشى أن تتكلم وحدها. ومع كل صف يُفتح، تتشكل أمام القارئ خريطة قدر لا يمكن محوه، فقط يمكن قراءته ببطء، كسجّل إعدام يُتلى على مهله.
في الأدبيات المظلمة يُقال إن لينورمان لا يكذب، لكنه أحيانًا يختار متى يقول الحقيقة. بعض القراءات تأتي كهمسة، وبعضها يأتي كطعنة. هناك من رأى موته في ورقة النعش قبل سنوات من وقوعه، وهناك من رأى الخيانة في ورقة الثعبان ثم عاش بقية عمره يراقب كل الوجوه بريبة لا تشفى. في هذه اللحظات تتحول الأوراق من وسيلة معرفة إلى لعنة إدراك، لأن الإنسان قبل أن يعرف كان يتألم، وبعد أن عرف صار ينتظر الألم.
لينورمان لا يتعامل مع المستقبل كاحتمال، بل كمسار يتحرك بثقل لا يُرى. هو لا يسأل ماذا تريد، بل ماذا سيحدث. ولهذا يبدو أكثر قسوة من باقي أنظمة التنبؤ، لأنه لا يمنح مساحات واسعة للاختيار، بل يترك الإنسان واقفًا على حافة بين ما يتمنى وما كُتب له أن يواجهه. وهنا تكمن رهبته الحقيقية، ليس في الغيب، بل في فقدان سلطة الحلم.
في عالم الرعب تظهر قارئة لينورمان دائمًا كشخص يعرف أكثر مما ينبغي، يجلس في الظل، يقلب الأوراق ببطء، وكأنه يقلب عظام الموتى لا ورقًا. عيناها لا تبرقان دهشة، بل يقينًا، وحين تصمت بعد القراءة يكون صمتها أخطر من أي نبوءة، لأن بعض المصائر لا تُقال، بل تُترك لتنمو داخل الصدر مثل ورم صامت.
نفسيًا، لينورمان يوقظ أعمق مخاوف الإنسان، لا لأنه يخبره بما سيحدث فقط، بل لأنه يجبره على مواجهة نفسه كما هي، دون تجميل. من يرى الخيانة يبدأ يفتش عنها في كل أحد، ومن يرى الفقد يبدأ وداعه مبكرًا، ومن يرى السفر قد يكون في داخله هروبًا من شيء لم يُسمّه بعد. وهكذا يصبح التنبؤ مرآة للقلق أكثر مما هو نافذة للغيب.
في النهاية، لينورمان ليس مجرد أوراق، بل عقد غير مكتوب بين الإنسان والمجهول. حين تُسحب أول ورقة، يكون السؤال قد طُرح على الوجود نفسه، وحين تُوضع آخر ورقة، يكون الجواب قد كُتب، سواء قُرئ أم أُغلق عليه إلى أن يحين وقته. إنه نظام لا يعدك بالنجاة، بل يعدك فقط بأن الحقيقة ستصل في موعدها، حتى لو كنت غير مستعد لها.
